موضوع البحث
(قضى الله) و (أمر الله) بالنسبة لله تعالى وبالنسبة للبشر والمخلوقات في السياق القرآني
الهدف من هذا البحث :
أحاول في هذا البحث قراءة و توضيح السياق القرآني الذي ورد فيه( قضى الله ) و ( أمر الله ) ومشتقاتها ، حيث أنها تفيد معنيين مختلفين بالنسبة لله تعالى و بالنسبة للبشر حسب السياق ، وقد تأتي بمعنى القدرة والخلق ، وتأتي بمعنى التشريع الإلهي المطلوب من البشر تطبيقه وتنفيذه وتأتي بمعنى الموت أو انقضاء الأجل بالنسبة لنفس من الأنفس .
وسوف أذكر بعض الأمثلة التوضيحية قبل الدخول في تقسيمات البحث الرئيسية ليتضح أكثر الغرض والهدف من هذا البحث :
ــ يقول عز وجل (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)البقرة : 117 ، والواضح هنا أن الله تعالى يتحدث عن القضاء بمعنى التدبير الإلهي والأمر بمعنى القدرة والخلق للأشياء .
ــ يقول تعالى (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ... الآية ) الإسراء : 23 ، وواضح هنا أن القضاء الإلهي بمعنى التشريع المطلوب من البشر تنفيذه وتطبيقه.
ــ ويقول أيضا جل وعلا (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) النحل : 90، وواضح هنا أيضا أن الأمر هنا ليس له علاقة بالقدرة الإلهية ولكنه تشريع إلاهي مطلوب من البشر تنفيذه والاثنان معا يختصان بالله تعالى في هذه الدنيا ـ أي من حيث خلقه جل وعلا الإنسان والعالم ، وتشريعاته للإنسان .
ــ وهناك قضى بمعنى الحكم يوم القيامة كقوله تعالى ( ....وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ) الزمر : 69.
ــ وهناك قضى خاصة بالإنسان ، ومنها ما يقوم به الإنسان بإرادته مثل قوله تعالى (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ) القصص : 29 .
ــ ومنها ما لابد للإنسان من مواجهته من الحتميات كالموت (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ) الأحزاب : 23 .
ومن خلال هذه المقدمة الأولية لمعنى (قضى الله) و (أمر الله) يكون لدينا خمسة محاور يشرح ويوضح فيها السياق القرآني خمسة معاني مختلفة ، ويحتاج كل منها لتفصيل ومزيد من التوضيح من خلال سرد الآيات القرآنية التي تتحدث في نفس المعنى أو السياق ، وحتى يمكن للقارئ أن يخرج بنتيجة في نهاية قراءته للآيات بعد تعليق الباحث عليها .
ونبدأ بالشرح والتفصيل :
أولا : شرح السياق القرآني الذي جاء فيه قضى وأمر بمعنى الخلق :
بداية أود الإشارة إلى أن قدرة الله جل وعلا وسعت كل شيء وأنه سبحانه وتعالى قادر على خلق أو فعل أي شيء بمجرد قوله سبحانه كن يقول تعالى (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)يس ، وهنا تتجلى قدرة الله سبحانه إذا أراد أمرا مهما كان هذا الأمر فيكون قضاء هذا الأمر بمجرد قوله جل وعلا كن .
والخلق هنا له أنواع :
1 ـ خلق الكون وما فيه (السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم ...الخ ) ، وهنا يجب الإشارة إلى الكيفية التي كانت عليها السموات والأرض قبل أن يتم فصلهما عن بعضهما يقول تعالى(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)الأنبياء ، استفهام إستنكارى موجه للكفار بأنهم لم يتفكروا في خلق الله العظيم للسموات والأرض ، وقدرته على خلق كل شيء من الماء .
ــ جاء في القرآن الكريم قضى الله وأمر الله بمعنى قدرة الله وتدبيره جل وعلا في خلق السموات والأرض يقول تعالى (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) البقرة .
ـ وذكر أيضا تدبير وقدرة الله في تحديد عدد السموات والمدة الزمنية التي تم فيها ذلك يقول تعالى (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)فصلت .
ــ وتكرر ذكر (أمر الله ) للتعبير عن قدرته جل وعلا في خلق السموات والأرض معا وأن الله سبحانه وتعالى هو من يدبر الأمر كله يقول تعالى (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) يونس ،وهنا ربط بين قدرة الله وموضوع الشفاعة مع أمر بعبادة الله ، وبما أنه سبحانه لا يحتاج لمساعدة من أحد في خلق السموات والأرض وما فيهما (فيهن) من مخلوقات ، فهو سبحانه وتعالى من يدبر الأمر كله يوم القيامة أو مالك يوم الدين ، دون المساعدة من أحد أيضا.
ــ وجاء أمر الله لتوضيح قدرته جل وعلا في رفع السموات بغير عمد والآلية التي خلق بها الشمس والقمر وأن كلا منهما يجرى لأجل لا يعمله(يعلمه) إلا الله (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)الرعد .
ـ توضيح أكثر أن قدرة الله جل وعلا في خلق كل شيء وأن ما يخلقه الله من مخلوقات مهما كانت كبيرة الحجم فهي مسخرة بأمره وقدرته جل وعلا ، فإذا كان الشمس والقمر والنجوم والليل والنهار وهذا الكون الهائل مسخر بأمر الله وقدرته فهل يتكبر الإنسان أن يكون كذلك يقول تعالى (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)الأعراف .
ــ ولكي يؤمن هذا الإنسان العنيد الجهول أنزل الله جل وعلا من هذه السماء ماء ليخرج به من الثمرات رزقا للناس ، كما سخر لهم الفلك لتجري في البحر بقدرته جل وعلا وسخر لهم الأنهار ليشربوا منها ماءً عذباً يقول تعالى (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32)إبراهيم ، إذن خلق الله الكون بما فيه من سماوات وأراضين والشمس والقمر والنجوم والبحار والأنهار ، تهطل الأمطار لتنبت رزقاً للإنسان وكل هذا الكون مسخر بأمر الله وقدرته جل وعلا ، وفي نفس الوقت هذا الكون العظيم مـُسـَخـر لخدمة الإنسان بأمر من الله ، ليتفكر في عظمة هذا الخلق ليصل به في النهاية إلى الإيمان الكامل بأن خالق هذا الكون إله واحد عظيم ليس كمثله شيء ، قادر على كل شيء ، وأن هذه الأمور فيها آيات لكي يتفكر فيها ذلك الإنسان باستخدام نعمة العقل التي ميزه الله جل وعلا بها عن باقي المخلوقات يقول تعالى (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)النحل ، وتكرر في سورة الحج أن الله جل وعلا قد سخر ما في الأرض جميعا والفلك بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض بإذن الله ، لكن الله جل وعلا رءوف بعباده ، يقول تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)الحج .
2 ــ بالنسبة لخلق الإنسان:
بداية يجب أن نذكر أيضا قدرة الله جل وعلا على خلق الإنسان أو أي شيء بمجرد قوله تعالى كن مثلما خلق عيسى عليه السلام بدون أب وبقوله تعالى كن(قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)آل عمران : 47 وفي قوله تعالى (قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)مريم ، الله جل وعلا يدبر الأمر وبقدرته بقوله كن يفعل ما يريد.
ـ وتأتي لتوضح ( لتوضيح) قدرة الله سبحانه وتعالى في خلق الإنسان من الطين وتحديد الأجل لكل مخلوق من البشر (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)الأنعام ، يقول تعالى أيضا (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ)المؤمنون : 12.
ــ وهنا قدرة الله جل وعلا يجعل العجوز في سن اليأس تحمل وتلد مثلما قضى لزوجة إبراهيم عليه السلام وهو شيخ أن تلد إسحاق ومن بعده يعقوب عليهما السلام (قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) ( قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)هود ، وهنا كسر لقواعد الطب التي توصل إليها العلم أن الأنثي تتوقف عن الإنجاب في سن معينة ، ولكن الله يخلق ما يشاء ، وأعظم من ذلك قدرة الله جل وعلا تجعل السيدة العاقر تنجب مثلما حدث مع امرأة نبي الله زكريا يقول تعالى(يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (
مريم .
ـ وتأتي لتوضح قدرة الله جل وعلا وعدم احتياجة للعون أو المساعدة أو اتخاذه ولدا سبحانه وتعالى (مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)مريم ، لكن قدرة الله وسعت كل شيء فمجرد أن يريد الله أمراً فإنما يقضى أو ينفذ هذا الأمر بقوله كن .
ــ وتتجلى قدرة الله جل وعلا في الخلق ، هنا أنه سبحانه وتعالى قادر على أن يحيي ويميت بمجرد قوله كن أيضا (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) غافر ، والله جل وعلا قادر على أن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي يقول تعالى (وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ)يونس :31 .
ويجب الإشارة إلى أمر هام أن المولى عز وجل قد أحسن كل شيء خلقه في هذا الكون قبل أن يبدأ خلق الإنسان من طين ، بمعنى أنه خلق كل شيء في أحسن صورة وفي أفضل حال يقول تعالى)الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ)السجدة : 7 صدق الله العظيم
كان هذا عرض للسياق القرآني الذي جاء فيه قضى الله وأمر الله بمعنى الخلق